جنة يعقوبي – محررة بموقع الراصد
مع اقتراب كلّ موعد انتخابيّ، يُجرّ الجزائريون -إلا من سلم منهم- إلى مناقشات تبدأ ولا تنتهي إلا بتبادل التهم والتنابز بالألقاب، والتصنيف والتعصب للجهات والأعراق، وهو ما يلهي هذا الشّعب المسلم عن معركته الحقيقية لأجل إخراج البلد من شرنقة التخلّف والتبعية، وبناء دولة العدل والرقي المنشودة، ولأجل ترسيخ عناصر هويته على أرض الواقع، وإخراجها من بين الأوراق والدفاتر إلى كافّة الميادين، ليرى أثرها في صياغة القوانين وتسيير المؤسّسات، وفي السياسات الداخلية والخارجية.
الخيارات المطروحة أمام الجزائريين، تختلف حولها التقديرات، وتتنوّع وجهات النّظر، وبعضها يبدو بالتمحيص أصلح من بعض، كما أنّ بعض الآراء قد تبدو نتائجها وبالا على البلد، لكنّ التقييم ينبغي أن يأخذ في الحسبان مدى إخلاص أصحاب وجهات النّظر المختلفة لهوية الأمّة واستقلالها وآمالها، حتى لا يتحوّل الخلاف إلى نزاع، وحتى لا يُقرن من يطلب الحقّ فيخطئه بمن يطلب الباطل رأسا فيدركه.. ولعلّ من أهمّ أسباب حدّة الخلاف واحتدام النقاش، إغفالَ الوجهة الواحدة والهمّ المشترك بين أكثر المنحازين إلى الأطراف المختلفة.
من حقّنا، بل من واجبنا أن نتناظر حول الخيارات الموضوعة أمامنا؛ أيها أصلح للبلد، وأيها أكثر خدمة لهويتنا وآمالنا في جزائر جديدة، ويحشد كلّ منّا الأدلّة لما يراه الأصلح، لكنّه لا يليق بنا أبدا أن نخرج من دائرة المناظرة والجدال بالتي هي أحسن، إلى دائرة الخصام والجدال بالتي هي أسوأ، ونتبادل التهم ويخوّن بعضنا بعضا؛ فنحن أتباع دين واحد وأبناء وطن واحد، وجُلّنا نقرّ بأنّ بلدنا في حاجة ماسّة وعاجلة إلى إصلاحات حقيقية وجادّة، في السياسة والاقتصاد والتّعليم والثقافة، وفي شتى المجالات، وفي حاجة إلى قوانين صارمة تؤسّس لهذه الإصلاحات. وما أجمل أن نتمثّل في هذه الفترة الحسّاسة التي نمرّ بها القاعدة الذهبية: “نتعاون فيما اتّفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه”! تختلف وجهات نظرنا، ويدافع كلّ طرف عن فكرته بما أوتي من حجّة، لكنّ قلوبنا ينبغي أن تظلّ متآلفة، وألسنتنا ينبغي أن تبقى سليمة عفيفة.
هذا، وينبغي أن يترسّخ في أذهاننا أنّ إصلاح السياسة والاقتصاد، وإرساء دولة العدل والحريات، غايات نبيلة ينبغي أن نهتمّ بها ونسعى جميعا لأجل تحقيقها، فهي من الغايات التي تندرج تحت مقاصد الدّين الأساسية: حفظ الأنفس والأموال والأعراض، لكنّ هذا ينبغي ألا يلهينا عن الاهتمام أكثر بحفظ دين الأمّة وصون هويتها، ليس في الدّساتير والقوانين فحسب، إنّما في الواقع أيضا، فلا يكفي أن نتغنّى بعناصر هويتنا فيما نَسطُر، ونتغزّل بها بعبارات فضفاضة تحتمل التأويل والتخصيص والمعارضة أيضا، ونزيد على ذلك بأن نتنكّر لها في الواقع، ونلقي الحبل على الغارب للمؤسّسات والإدارات ونسمح لها بأن تصدر تعليمات ولوائح وتتّخذ إجراءات تخالف تمام المخالفة ما أُصّل له في الدّساتير.
كما ينبغي –أيضا- أن نجعل نصب أعيننا أنّ أعداءنا ليسوا هم من يشاركوننا الهمّ والغاية ويختلفون معنا في طريق الوصول إليهما، إنّما هم أولياء الاستعمار الذين لا يريدون لهذا البلد أن تتحرّر سياسته ولا اقتصاده ولا ثقافته عن المستعمر القديم، ويريدون لخيراته أن تبقى مرهونة لعدوّ الأمس واليوم والغد. هؤلاء الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، ونهبوا الأموال وأنهكوا الاقتصاد وأفسدوا التّعليم والثقافة وسعوا في إفساد الدّين، وحبكوا المؤامرات لسلخ المجتمع المسلم من هويته، وأثاروا الفتن بين أبناء الشّعب وعزفوا على أوتار الجهوية والعرقية، وحاربوا الشرفاء ونكّلوا بهم، وأدخلوا البلد في أتون أزمات أمنية وسياسية واقتصادية خانقة. هؤلاء الذين يأكلون على كلّ الموائد ويلبسون لكلّ مناسبة لباسها، هم العدوّ الذي ينبغي أن تتكاتف الجهود لكشف مآربه ووأد مشاريعه وقطع الحبال التي يمدّها للمتربّصين والماكرين.