اكتسب ديزموند توتو، ذلك الأسقف الباسم من جنوب أفريقيا، أصدقاء ومعجبين في شتى أرجاء العالم، بفضل شخصيته الجامحة.
وباعتباره رجل دين أسود بارزا، كان لابد أن ينخرط في الصراع ضد نظام الفصل العنصري، ولكنه كان يصر دائما على أن دوافعه دينية وليست سياسية.
عيّنه الرئيس الراحل نيلسون مانديلا رئيسا للجنة الحقيقة والمصالحة التي شكلت للتحقيق في الجرائم التي ارتكبها جانبا الصراع في جنوب أفريقيا إبان حقبة الفصل العنصري.
وُلد ديزموند توتو في عام 1931 في بلدة صغيرة يعمل معظم سكانها في مناجم الذهب في إقليم ترانسفال.
اقتفى بادئ الأمر خطوات أبيه وعمل مدرسا، ولكنه ترك تلك المهنة عقب سريان قانون تعليم البانتو في عام 1953، وهو القانون الذي أدخل الفصل العنصري في المدارس.
انضم ديزموند توتو إلى الكنيسة، وتأثر كثيرا بالعديد من رجال الدين البيض في جنوب أفريقيا وعلى وجه الخصوص ذلك المعارض العنيد لنظام الفصل العنصري الأسقف تريفور هادلستون.
وبعد ترسيمه كاهنا في الكنيسة، حصل توتو على شهادات في علم اللاهوت وعلم النفس من جامعة في لندن، وعمل لفترة في كنيستين في جنوب شرقي إنجلترا.در وعقب فترة قضاها يعمل في المجلس الكنسي العالمي في بريطانيا، أصبح توتو أول رئيس أسود للكنيسة الانجليكانية في جوهانسبرغ في عام 1975.
كما عمل أسقفا في ليسوتو بين عامي 1976 و1978، ومساعدا لأسقف جوهانسبرغ ورئيسا لابرشية في ضاحية سويتو قبل تعيينه أسقفا لجوهانسبرغ.
بدأ ديزموند توتو برفع صوته ضد الظلم في جنوب أفريقيا عندما كان رئيس الكنيسة الانجليكانية في جوهانسبرغ، ثم عندما أصبح الأمين العام للمجلس الكنائسي في جنوب أفريقيا في عام 1977.
وبالرغم من أنه كان شخصية معروفة قبل اندلاع انتفاضة 1976 في البلدات التي يقطنها السود، لم يعرف المجتمع الأبيض في جنوب أفريقيا توتو بوصفه مناضلا من أجل الإصلاح إلا قبل اندلاع أعمال العنف في سويتو ببضعة شهور.
حاز ديزموند توتو على جائزة نوبل للسلام في عام 1984 بفضل الجهود التي بذلها في التصدي لنظام الفصل العنصري، في خطوة اعتبرت بمثابة إهانة كبرى من جانب المجتمع الدولي لحكام جنوب أفريقيا البيض.
وحضر حفل تنصيب توتو رئيسا لأساقفة جوهانسبرغ شخصيات دينية دولية منها أسقف كنتربري السابق روبرت رانسي وأرملة زعيم الحقوق المدنية الأمريكي مارتن لوثر كينغ.
وواصل توتو، بعدما أصبح زعيما للكنيسة الانجليكانية في جنوب أفريقيا، تصديه الفعال لنظام الفصل العنصري. ففي آذار/ مارس 1988، قال “نرفض أن نُعامل كممسحة أرجل تمسح الحكومة أحذيتها عليها”.بعد شهور ستة، خاطر ديزموند توتو بدخول السجن بمطالبته بمقاطعة الانتخابات المحلية، كما تعرض لتسمم بغاز مسيل للدموع في آب/ اغسطس 1989، عندما تصدت الشرطة لمجموعة خارجة من كنيسة في بلدة للسود قرب كيب تاون، وفي الشهر التالي، ألقي عليه القبض بعد رفضه ترك مظاهرة محظورة.
وحصلت دعواته لفرض عقوبات على جنوب أفريقيا، بعد أن أصبح رئيسا للأساقفة، على دعم وتأييد من شتى أرجاء العالم، خصوصا أن هذه الدعوات صاحبتها إدانة قوية لكل أعمال العنف.
رحب ديزموند توتو بحرارة بالإصلاحات الليبرالية التي أعلن عنها رئيس جنوب أفريقيا دي كليرك بعد توليه منصبه بقليل، وشملت هذه الإصلاحات رفع الحظر المفروض على المؤتمر الوطني الأفريقي وإطلاق سراح نيلسون مانديلا.
وبعد وقت قصير، أعلن ديزموند توتو حظرا على انضمام رجال الدين إلى الأحزاب السياسية، وهو قرار أدانته الكنائس الأخرى. وفي وقت لاحق من عام 1990، حاول التوسط لحل خلافات بين حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وحركة انكاثا التي كان يتزعمها شيخ الزولو غاتشا بوثيليزي.
لم يخش ديزموند توتو من البوح بآرائه أبدا. ففي نيسان/ أبريل 1989، أثناء زيارة لمدينة برمينغهام في إنجلترا، انتقد ما وصفه بـ”بريطانيا ذات الأمتين”، وقال إن السجون البريطانية تعج بالنزلاء السود.
كما أغضب الإسرائيليين عندما شبّه – أثناء زيارة – الأفارقة السود في جنوب أفريقيا بالفلسطينيين الذين يقطنون الضفة الغربية وقطاع غزة.
وقال توتو إنه لا يستطيع أن يستوعب كيف يمكن لشعب عانى الأمرين كاليهود أن يفرض هذا الكم من المعاناة على الشعب الفلسطيني.كان ديزموند توتو من أشد المعجبين بنيلسون مانديلا، ولكنه لم يتفق معه دائما وخصوصا في ما يتعلق بجواز استخدام العنف لتحقيق هدف عادل.
وفي نوفمبر 1995، طلب مانديلا، وقد أصبح آنذاك رئيس جنوب أفريقيا، من توتو أن يرأس لجنة للحقيقة والمصالحة مهمتها البحث عن أدلة عن وقوع جرائم إبان حقبة الفصل العنصري، وإصدار توصيات بشأن ما إذا كان يجب العفو عن أولئك الذين يعترفون بضلوعهم بتلك الجرائم.
وفي نهاية أعمال اللجنة، هاجم توتو قادة جنوب أفريقيا البيض السابقين، وقال إن معظمهم كذبوا على اللجنة.
ورغم قبول الحكومة بالتقرير الذي أصدرته اللجنة، انتقدها كثيرون بزعم أنها لم تحقق الأهداف التي شُكّلت من أجلها.
فقد اتُّهم توتو، على سبيل المثال، بالتساهل مع زوجة مانديلا الأولى ويني التي كانت تواجه تهما خطيرة بما فيها الضلوع في جرائم قتل.
ولكنه كان دائم التأثر بآلام ضحايا العنف، وشوهد أكثر من مرة وهو يبكي أثناء جلسات اللجنة.
كما وجّه توتو انتقادات لحكومة الأغلبية السوداء التي تولت الحكم عقب سقوط نظام الفصل العنصري، وشن هجمات لاذعة على حكومة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي التي كان يقودها الرئيس ثابو امبيكي.
وادعى أن حزب المؤتمر الوطني لم يقم بما يكفي من أجل محاربة الفقر وأن قدرا كبيرا من الثروة والسلطة السياسية تتركز في أيدي نخبة سياسية سوداء جديدة.
وبعد سنتين، حث توتو جاكوب زوما، الذي وجهت إليه تهم فساد واقتراف اعتداءات جنسية، على التخلي عن سعيه للفوز بمنصب الرئاسة.
كما كان شديد الانتقاد لحكومة روبرت موغابي في زيمبابوي.
ولم تسلم كنيسته الانجليكانية من انتقاداته، وخصوصا عقب اللغط الذي أثير بشأن ترسيم كهنة مثليين.
قال ديزموند توتو مرة، في معرض اتهامه للكنيسة بالسماح “لهوسها” بالمثلية الجنسية أن يتغلب على حربها ضد الفقر في العالم، إن “الرب يبكي”.
وعاد إلى موضوع الفقر في زيارة قام بها لأيرلندا في عام 2010، عندما حث الدول الغربية على التفكير جديا بتأثيرات خفض المساعدات الخارجية في أعقاب الأزمة الاقتصادية التي كانت تعصف بالعالم آنذاك.
وفي نيسان/ أبريل 2013، أُعلن أن توتو قد فاز بجائزة تمبلتون المرموقة، وهي جائزة هدفها تكريم الأحياء “الذين ساهموا بشكل كبير في تأكيد الأبعاد الروحية للحياة”.وكان من الفائزين بهذه الجائزة في الماضي كل من الأم تيريزا والدالاي لاما.
ودعم توتو – المتمرد الدائم – في تموز/ يوليو 2014 مبدأ المساعدة على الانتحار، قائلا إنه “لا ينبغي المحافظة على الحياة بأي ثمن”.
وقال، في رأي خالف كثيرا من الزعماء الكنسيين، إن للبشر الحق في اختيار الموت.
وقال إن صديقه الكبير ورفيقه في الكفاح نيلسون مانديلا، الذي وافاه الأجل في كانون الأول/ ديسمبر 2013، عانى كثيرا وطويلا من المرض الذي كان – برأي توتو – “انتقاصا من كرامته”.
كان رجلا نحيلا قصير القامة، وكان يلقب بـ”القوس”، ولكنه كان يتمتع بروح دعابة وتشع منه روح السعادة رغم مفهوم الواجب الذي كان يطغى عليه.
كان ديزموند توتو رجلا يتحلى بمفاهيم أخلاقية قوية، وحاول جاهدا تحقيق انتقال سلمي في جنوب أفريقيا.
عن موقع ب ب س عربية، بتصرف