رأي حر

لهذا تتخلف العلوم الاجتماعية في الجزائر

جنة يعقوبي – محررة بموقع الراصد 

مع إعلان نتائج امتحان البكالوريا من كل عام، يطفو النقاش حول موقع العلوم الاجتماعية في الجزائر، انطلاقا من معدلات الناجحين من شُعب الآداب واللغات وكذا رغبات متفوّقي العلوم التجريبية والدقيقة في الجامعة.

هذه المسألة الحسّاسة في مسار المجتمعات الحديثة الطامحة نحو التطور تحيلنا في الواقع إلى مظاهر ضعف، بل تردّي المستوى المعرفي في حقل العلوم الاجتماعية بالكليات الجزائرية بمختلف أطوارها، بما فيها دراسات ما بعد التدرُّج إلا الاستثناء الشاذ عن القاعدة، مثلما تقودنا إلى الجذور العميقة لنشوء هذه الإشكالية في ثقافتنا الاجتماعية وتفكيرنا الرسمي.

يجب الإقرار إذن بأنّ الاعتقاد السائد في الجامعة وخارجها هو أن العلوم الإنسانية والاجتماعية تبقى قليلة الأهمية عمليّا ومهنيّا، وهو ما ينعكس تلقائيّا على رؤية الأولياء والطلبة في النفور منها عند التفكير في صناعة المستقبل العلمي والوظيفي، إذ تطغى النظرة الدونية لها قياسًا بالعلوم الطبية والتقنية والهندسية التي تفتح الآفاق المادية أمام المنتسبين إليها.

إنّ تكريس تهميش العلوم الاجتماعية يتجسد في خطاب وممارسات السلطات الرسمية قبل تغييب المجتمع لها، لعدم استيعاب خطورتها من صناع القرار السياسي، وهم غالبًا أميون معرفيّا، في التنمية البشرية وتطوير الموارد والكفاءات، خاصَّة في ميادين صناعة القادة السياسيّين الذين تقوم على عاتقهم إدارةُ شؤون الدولة بمختلف مستوياتها.

ليس ذلك فقط، بل إن البحث في العلوم الاجتماعية هو الذي يمكّن المؤسسات العمومية من تشخيص سليم لمختلف مشاكل المجتمع الاقتصادية والثقافية والنفسية والسياسيّة، ويرسم لها خارطة الطريق في تجاوز الأوضاع المعيقة لانطلاق التنمية الوطنية، فضلاً عن أنه يصقل الفكر النقدي والفلسفي كضرورة حتمية في تحرير العقل البشري نحو الإبداع المعرفي والتخلّص من الأفكار البالية التي تشكل عقبة في طريق التقدُّم الإنساني.

لكن بلوغ مثل هذه الطموحات في تفعيل العلوم الاجتماعية ببلادنا يقتضي النظر بموضوعية إلى تخلفها الكبير اليوم، للبحث عن مخارج في المنظور المتوسط على الأقل، ذلك أن معادلة الأزمة معقدة ومركبة من عدة فواعل متداخلة.

بعيدا عن فرضيات تفسير أزمة العلوم الاجتماعية المرتبطة بالمستوى المعرفي، أي عدم قدرة العقل العربي على استيعاب مناهج ومفاهيم ونظرياتها الغربية، أو المستوى الواقعي المتعلق بالجمود والتخلُّف والانحطاط الحضاري للمجتمع العربي ككل، فإن مؤشرات أخرى واضحة للعيان وبسيطة تؤكد عمق المشكلة، إذ تسجّل كليات العلوم الاجتماعية في الجزائر التنامي العددي من دون مردودٍ نوعي، مقارنة على الأقلّ بدول الجوار في المغرب وتونس.

كما يلتحق في الغالب بكليات العلوم الاجتماعية ذوُو المعدلات المتدنية في البكالوريا، والذين لم يسعفهم الحظ في الالتحاق بالتخصُّصات العلمية، أو كنتيجة حتمية للتخصُّصات الأدبية التي درسوها في مساراتهم التعليمية، إضافة إلى غياب مراكز بحثية تتبنى الدراسات الأكاديمية الاجتماعية للاستفادة منها في السياسات العامة وتنمية المجتمع.

أما الطامة الكبرى فهي التمثلاث السلبية عن العلوم الاجتماعية لدى طلبة الجزائر، كسهولة الحصول على الشهادات دون بذل جهودٍ معرفية، باعتبارها عديمة الدور والمستقبل، ولا جدوى علمية معرفية من دراستها.

لهذه الأسباب لا يفكر الأولياء أبدا في توجيه أبنائهم منذ الطور الإكمالي للالتحاق الثانوي بالشُّعب الأدبية المؤهِّلة لاحقا لحقل العلوم الاجتماعية، ويتم إجباريّا إلحاقُ الضعفاء بها، ثم يعزف النجباء في شهادة البكالوريا عن مواصلة دراساتهم بالعلوم الإنسانية مهما كانت قدراتهم الذاتية فيها، لتبقى مكسبًا مضمونًا للمتذيّلين على قائمة الناجحين بالإنقاذ، فهل نصنع علماء متميزين من أضْعف طلبة البلد؟

نقدِّر الدوافع المادية في تفكير عائلات جزائرية تدفعها الحاجة العاجلة، لكنّ التطلع إلى المباهاة الاجتماعية في خيارات التعليم العالي أضحى للأسف ظاهرة سلبية على حساب الاهتمام بالعلم كقيمة ذاتية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى